المغيره حسين



شعرية الرمز
عن تجربة الشاعر الشاب حسام الكتيابى

" لغة الشعر ، بتحديد كبير ، هى تلك التى لن تصير ، قط ،لغة قياس "
سليم بركات

تفتح تجربة حسام الكتيابى الشعرية خطا مفارقا وأفاقا أخرى أكثر مغايرة للنمط الشعرى السائد فى المشهد الابداعى السودانى ذو الاتجاهات المتعددة ، من الغنائية التقليدية البسيطة التى تدغدغ الاحساسات ، الى الكتابات الشاقة والمكلفة التى تحمل طابعا معقدا وغامضا لتفسر الكون والوجود ، مرورا بالقصيدة الأسلوبية ذات الأسئلة التنويرية الملحة والواقعية ، اشتراكية كانت أم سحرية . لكن نصوص حسام الكتيابى تذهب مباشرة لاجتراح فضاءات تخصها موغلة فى التجريب الرمزى الذى يسعى لهتك وتقويض العلاقات السائدة بين البنى اللغوية والصور الحياتية المترسخة فى الذاكرة الجمعية للشعر والحياة معا والبناء على أنقاضها عوالم وخطابات أخرى لا توازى مطلقا الخطاب اليومى السليقى بل هى تعمد لمهاجمته وفضح تكراريته المجترة وجدبه ونمطيته وخواء روحه المستهلكة .
جميعنا نعرف انما الشعر هو لغة داخل اللغة وهو الى ذلك نزعة انسانية لا قيمة ألسنية تفقد مزاياها اذا انتقلت من لغة الى لغة وانما هو ايضا حقيقة تعتمد على الايحاء بالأفكار والمشاعر واثارتها . غير أن النص الشعرى عند حسام الكتيابى يهدف الى اقامة علاقة بين حساسيتنا ، أو خيالنا ، وبين بعض قوانين الكون وايقاعاته التى تهملها ملاحظتنا العامية /الدارجة ويرتبط منطقه المتفلّت بالمدهش والغريب ليوحى بعالم مجهول يكمن خلف الرؤية العادية للأشياء . انه مغامرة متجددة ، مغامرة رمز ، مغامرة معرفة واستكشاف ولا يعمل باللغة الاجتماعية الدارجة أو المدرسية المستهلكة انما يعبر باللغة وقد ارجعت لايقاعها الأولى ، ايقاع المعنى الغامض لمظاهر الوجود .

الشعر لايعرف

العين لاترى نفسها

على الحدود الداخلية للبلاد

في الاصيل

حداد الكلاب الطويله

تنبح ظلالهم

اثر قطعة عشب

لسوء حظ الارض

لا شمس تجري

من الجنوب للشمال

لعبة الشعر هنا مجازفة دموية تستنزف اللغة وهى ليست لعبة بما تحمل الكلمة من معنى الترويح والاستخفاف أو الوصول لمتعة مجانية ومبتذلة ، انها هتك صريح وواضح لما هو سائد ، واختراق عنيف للحس السليم ، ليهدم سكونيته ومنطقه المرتب واعتياديته وجماليته البرانيه الهشة ، اختراق دامى للمصير المحنط والمحطم وللوجدانات المرهفة التى طالما أرهقها الترقيع والاجترار والتراكمات الماضوية المثقلة ، انها لعبة التصادم العنيف والمرفقعات التى اشتعلت بعد انطفاء طويل.
نص حسام الكتيابى الشعرى لا يحده شكل وغايته المطلق ، النقطة التى يتفجر فيها كل شئ ويتكشف

الغروب.. ذلك الطمث السماوي
هذا يبرر
ان الله لايقبل صلاة السماء
حين تكون حائضا"
لا الانثى حين تكون سماء"
تبتسمين بلا رحمه
كذلك تجلسين
وحينما يحر الطريق
تفوح ذراعك من ابطي
الهي:
ارهقتني الاناسه
اعدني الى رئتيك
زبر

يستفيد النص الشعرى عند حسام الكتيابى من جميع المدارس والتيارات الشعرية الحداثوية التى ظهرت بعد هزيمة الانسان ، من السوريالية الى الدادية و الى العبث بيد أنه لا يسقط مطلقا فى فخ عدميتها ، انه يقترب كثيرا من التخوم قبل أن يعود بجسارة الى الشعر فى تجليه الأقصى مغورا بعمق فيما تحت سطوح المدلولات والتراكيب اللغوية البرانية و المكشوفة دون أن يتلاءم مع الواقع ، متلائما فقط مع ما يطمح فى أن يود قوله وفيما لا يمكن تحديده الا بواسطته نفسه ، خادشا ببطش براءتنا ليحدد لابراءته

ضي لعناق في النار
ضعينا على بعضنا
ساندويتش حنين
..

انبعجت تماما"
وسال لعاب الارض
فامنحوني دقائق
لاغسل يدي من الطين
بعدها
دسوا السم للموت فيني
او هكذا اظن

منذ الوهلة الأولى يعلمنا نص حسام الكتيابى الشعرى أن نتفارق مع الأمل ، أن نتفارق مع المتوقع ، أن نتفارق مع اللغة . . تلك الحقيقة البشرية التى تنشد المعنى ولا شئ غير المعنى والذى يتحالف بدوره مع الدلالات المعلومة والرموز المستهلكة التى تلون ، ولا تبرقع ، الكون بسيادة المفاهيم والحقائق السابقة والمجترة فى تراكيب متواترة تعيد انتاج الجمود وان كان بفزلكة ما . ان عجن اللغة وبالتالى الكون وتشكيلهما مرة أخرى ليس هو فى حقيقة الأمر سوى عجن مادة استهلك استعمالها وانطبعت كحقيقة حتمية يرتاح لها الحس السليم ويتوافق مع نتائجها المنطقية التى تتكرر باستمرار ، بينما فى نص حسام الكتيابى فانه كل مفردة رمز ، وكل رمز يخرّب الظن و المعنى ، وكل ظن ينشد الشعر

سورتك بطفلين متوازيين

انجبناهما ليل هندسه

يكرهان الضفادع

ويحبان

الفولكسفاجن
لاحقا": ستحفرين وجنتيك
بكل معاول ابتسامتك
تتغوطين بجلال
ثم تقولين:هيا بنا
تضحكين وتقبلينني كدبابة اسعاف
هذا مثير للموت!
لا القطن لا الملح
يفعل بالجرح
انه البياض يضمد الحمره
عضي شفاهك
هكذا!!
مطلقا"لم ار غزالة" بهذه الزرافه!!
-هناك
حيث تغرق السماء في البحر اويطير
تواعدينني خالفة" رجُلا" على رجُل
انت تسيئين استعمالي!
-تطلب فنجانين
تحجز مقعدين
لرجل وانثى واحد

ان المفردات هنا ، الرموز بالأحرى ، لا تتاخى ، أو تتصاهر لتكون عائلة المعنى التى تتناسل من شجرة النسب اللغوى ، بل هى فى الواقع ، بينما تهتك كل شئ ، تبنى هويّة النص الشعرية الخاصة والقائمة فى ان معا ، منه وبه ، فالنص هنا ينخرط منذ لابدايته وحتى لا نهايته فى تكوين مادته البكر وتشكيلها باستمرار وبلا توقف حافرا لذاتيته المطلقة وعميقا فى أرض ما مشى عليها نص سابق أو لاحق ، فالعالم الذى ينشأه النص الشعرى عند حسام الكتيابى يبقى كحيازة شخصية موقوفة عليه دون سواه ، لن تطأها نصوص شعرية أخرى مهما يكن

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة